Wednesday, October 3, 2007

فاروق: الخليفة المنتظر
وتصادم الشرعيات

وسام سعادة - السفير

سبق للممثل السوري تيم حسن أن أظهر براعة شديدة في تجسيد طبائع وقسمات الدهاء السياسي لشخصية تاريخية ضمن مسلسل تلفزيوني. كان ذلك في أكثر من محطّة أبرزها تألقه في أداء دور محمد بن أبي عامر في «ربيع قرطبة».ابن عامر هذا هو الشاب العربي الأندلسي الطموح الذي يواجه نفوذ زعامات الموالي ورؤساء الفتيان الصقالبة، ليصعد بسرعة البرق ويتبوأ منصب «الحاجب» أو كبير الوزراء لدى الخليفة الأموي، إلا أنه سرعان ما يحجب سلطة الخليفة، ويقعد أمير المؤمنين الهشام بن الحكم سجيناً في قصره، فيما يتخذ لنفسه هو لقب الملك المنصور. ما حلّ بالخليفة الأموي في قرطبة جاء ليتطابق زمنياً واعتبارياً مع ما حلّ بالخليفة العباسي في بغداد على يد أمير الأمراء البويهي، ثم على يد السلطان السلجوقي.



اذ يمكن للملك المنصور أو للسلطان أن يفعلا بالخليفة الأموي في قرطبة أو العباسي في بغداد ما
أرادا، إلا أنهما لا يستطيعان، لا إلغاء الخلافة ولا اتخاذها صفة لهما. معطى تاريخي كهذا لم يتأخر الجويني والماوردي حتى صقلاه بفقه سياسي يسنده الى أبد الآبدين
<

يتقاطع لأجل ذلك الدور الذي لعبه الممثل الشاب تيم حسن في «ربيع قرطبة» مع الدور الذي لعبه لهذا الموسم الرمضاني، وبإتقان فائق في مسلسل «الملك فاروق»، للكاتبة لميس جابر. وهو مسلسل لا تخفى صفته الريادية في الدراما المصرية التي تعالج شأناً تاريخياً معاصراً. فإذ يؤدي تيم حسن دور الملك فاروق، فإنه يذكّر أول ما يذكر، بأن هذا الفرع من سلالة محمد علي قد دغدغته أكثر من سواه أحلام إحياء الخلافة. فالسلطان أحمد فؤاد والد فاروق والابن الأصغر للخديوي اسماعيل الذي رافق أباه في رحلة المنفى الإيطالي وأسس لعلاقة تاريخية مع ايطاليا ستتجدد مع ابنه الذي اتخذه لنفسه صفة «صاحب الجلالة ملك مصر» في اثر التصريح البريطاني ليوم 28 فبراير 1922 الذي يمنح استقلالاً لمصر، انما دغدغته قبل سواه أحلام استئناف الخلافة، ما أن أُعلن عن إلغائها في تركيا.هذا الرجل الذي يصفه المؤرخ الكبير يونان لبيب رزق بأنه «كان أول حاكم لدولة مصر المستقلة في التاريخ الحديث» افتتح مشكلة لا آخر لها بنشدانه الخلافة الاسلامية، بحيث اختلط الحابل بالنابل في سنوات حرجة من تاريخ مصر، ما بين وجهة نظر ترى أن القاهرة هي أنسب مكان لدار الخلافة وبين وجهة ترتئي عكس ذلك، ولم يتم النظر الى كتابي علي عبد الرازق «الاسلام وأصول الحكم» وطه حسين «في الشعر الجاهلي» إلا في ضوء طرح مسألة الخلافة، وباعتبارهما طعنتين تسدّدان ضدها فكرة من طرف حزب الأحرار الدستوريين، حزب الأقلية، الملتحق حول أفكار أحمد لطفي السيد القومية الليبرالية الموالية للنموذج البريطاني، في حين كان حزب الوفد، حزب الأغلبية والوحدة الوطنية الاسلامية القبطية، أميل الى الدفاع عن فكرة الخلافة مع رفضه أن تعطى للملك فؤاد

وكان التيار الاصلاحي السلفي ممثلاً بالشيخ محمد رشيد رضا أميل لأن يتخذ من إلغاء الخلافة العثمانية سبيلاً لإعداد العدة لبلورة وإنضاج خلافة من نوع آخر، لا تجيء استبدالاً لملك عضوض بملك عضوض آخر، وانما تعود الى حيث التقيّد بمزايا وصفات الخلافة الراشدة، خلافة الأوّلين

ما أعاد مسلسل «الملك فاروق» تذكير هذا الجيل من المصريين والعرب به هو أن الملك فاروق دغدغته هو أيضاً فكرة الخلافة، وعمل الوصي علي ماهر باشا بجهد وثبات لكي يكرّس بعدا دينيا في عملية اعتلاء الملك الشاب عرشه بعد تخطيه فترة الوصاية المختصرة بعد احتساب سن الرشد بالسنوات الهلالية لا الشمسية. وقد تقاطعت مع ألعاب القصر التي أتقنها علي ماهر انتظارات جماعة الاخوان المسلمين، وإمامهم حسن البنا، الذين كانوا ينطلقون مما توصل اليه الشيخ محمد رشيد رضا، من أن الفرصة الآن متاحة أمام الأمة للتعويض عن زوال الخلافة العثمانية بنوع من العودة الى تقاليد الخلافة الراشدة.يمكن أن يصطدم المرء الآن بواقعة أنه ثمة من كان ينتظر من فاروق الأول ملك مصر أن يبعث في الأمة خلافتها الراشدة، فالصورة المعطاة للملك بعد الثورة تقدمه كمتهتك عربيد لاه بعرشه ومجونه عن شعبه، بل تقذفه بأبشع تهمة يمكن أن توجه لملك أكبر دولة عربية، وهو أنه يتحمل مسؤولية رئيسية في تضييع فلسطين. طبعاً، يمكن الرجوع الى السفر الضخم والممتاز للطيفة محمد سالم، الذي بعنوان «فاروق وسقوط الملكية في مصر» ليتبيّن لنا أن الملك على سبيل المثال، وعلى الرغم من ولعه بالنساء والقمار واقتناء التحف أو حتى سرقتها، إلا أنه كان يعد الخمرة حراماً، شرعاً، وما كان ليعاقرها، خلافاً لكل البيانات التي كتبت ضده «كملك سكّير».بيد أن أهمية المسلسل لا تقتصر على إعادة ترميم صورة الملك في نواح شخصية وسياسية ذات أثر

لم يجنح المسلسل وراء عاطفة إحيائية ملكية بقدر ما أنه أنعش الذاكرة بمرحلة إشكالية كان فيها النضال من أجل رفع يد الاستعمار يتخذ أشكالاً «سياسية» ويندمج مع النضال من أجل التقيّد بأحكام الدستور، دستور الأمة المصرية.وفي هذا الاطار، أجاد المسلسل، الى حد كبير، في معالجة حادثة 4 فبراير ,1941 يوم حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين. فهذه حادثة كانت مؤسسة لاصطدام «شرعيات» المرحلة الملكية ببعضها البعض. يوم 4 فبراير، فرض الانكليز بالعسف وبالقهر على الملك الشاب تعيين مصطفى النحاس باشا، زعيم الوفد، رئيساً لحكومة وفدية خالصة. يومها انقلبت الموازين، كان الوفد هو القوة الشعبية الوحيدة التي يمكنها أن تقف في قبالة الشعبية الطافحة لدول المحور في الشارع المصري، والتي كان يحركها الملك بالاضافة الى الاخوان المسلمين والمجموعات الفاشية الصرف

ما حدث في 4 فبراير هو أن الشرعية الوطنية الاستقلالية لحزب الوفد قد ضربت عندما قبل النحاس باشا، بهذه الطريقة المخزية، تعيين الانكليز له، قبل أن يصرفوه من الخدمة حالما ابتعد شبح رومل عن العلمين. كذلك فإن الشرعية التاريخية لأسرة محمد علي أصيبت باهتزاز عنيف، وما لبثت أن تأثرت السلوكيات الشخصية للملك فاروق بالأمر، واعتبر طلاقه من فريدة دليلاً على ذلك، وساهم ذلك أكثر فأكثر في إعراض الشعب عنه، بدافع من خيبة الأمل والإحباط من بعد أن عُلّقت على هذا الشخص آمال كثيرة وصلت في أواخر الثلاثينيات الى حد ارتجاء تجديد فاروق الأول ملك مصر لذكرى الفاروق الأول عمر بن الخطاب!سمحت حادثة 4 فبراير في مصر بالتأسيس لخطاب استبعادي لكامل «الطبقة السياسية»، وهو ما فتح المجال من ثمّ، للضباط الشباب في الجيش، المؤسسة التي بنتها أسرة محمد علي فانتهت بعزل هذه الأسرة وتسويد صفحات معظم فروعها، بعد أن طلبت من فاروق مغادرة البلاد والتخلي عن عرشه لابنه الرضيع قبل أن تعلن بعد ذلك الجمهورية

طبعاً، يمكن أن يعاب على المسلسل أنه آثر التفسيرات التبسيطية لجهة تبرئة النحاس باشا تماماً من أي تنسيق مع الانكليز عشية 4 فبراير، أو لجهة تصوير مواقف كل القيادات من الحادثة بأنها جاءت ترجمة لقناعات وطنية راسخة تتعالى عن المصالح الشخصية والآنية. لكن يكفي أن المسلسل سلّط الضوء على مركزية هذه الحادثة بالنسبة لما بعدها، وما أسسته من تصادم شرعيات ما قبل الثورة ببعضها البعض، ما أمن السبيل لحكم العسكر
From Assafir 3 - 10 - 2007
Picture from: www.egyptiantalks.org

1 comment:

Abdul Qadir said...

يجب أن أعترف أن رسالتك رائعة. لقد قضيت الكثير من وقت فراغي في قراءة المحتوى الخاص بك. شكرا جزيلا! وإذا كنت بحاجة عبايات ٢٠٢٠ ثم اتصل بنا!