داليا عبيد
دفعت أحداث تونس اللبنانيين إلى التسلح بالحماس الشديد وقد لمست ذلك عن قرب عبر الشعارات التي رفعت على المواقع والمدونات الالكترونية حيث عكست المتابعة الدقيقة للشباب والنخب اللبنانيين خاصة الذين ليسوا على ارتباط مباشر بأطراف الحكم.
أثناء سقوط بن علي، كانت تسقط حكومة ائتلاف وطني في بيروت ولكن ليس عبر ثورة شعبية داخلية أتت نتيجة احتراق جسد مناضل للقمة العيش يدعى محمد بو العزيزي، بل نتيجة أزمة مستمرة تتفاعل منذ احتراق جسد رفيق الحريري في بيروت في شباط 2005. هذا الجسد الذي أدى بدوره إلى إشعال ثورة شعبية دفعت الناس بالزحف إلى وسط مدينة بيروت.
في ذلك الوقت، لم تتلاحم مكونات هذه الثورة وعناصرها. فلم تأخذ شكل كتلة مجتمعية واحدة موحدة تتظاهر نقمة على النظام السياسي اللبناني أو غضباً في مواجهة الأزمات الاقتصادية. إنما تشكلت من كتل طائفية ذو دعم دولي (تختلف الأسباب التي دفعت بكل منها إلى ساحة الحرية) في مواجهة كتلة طائفية أخرى ذو عمق إقليمي. وقد أتت اللحظة المليونية بثمارها ودفع رفيق الحريري ثمن تخلص اللبنانيين من شبح الخوف فخرج الجيش السوري الذي كان يحكم لبنان بقبضة بوليسية. وأمام تأملنا لهذه الأحداث، نستنتج بأن ما حصل لم يكن بالمسألة العادية بل هو حدث تاريخي كان بمثابة حلم لمعظم اللبنانيين صغاراً وكباراً.
وقد قدر لأقلية خارجة عن السياق الطائفي، شاركت في صنع الحدث، أن تتأمل في متابعة الثورة باتجاه تقويض دعائم النظام السياسي اللبناني ولكنها اصطدمت بهذا الحائط اصطداماً شديداً بعد أن خرج نظام الأسد من لبنان ولم يخرج معه رموزه اللبنانيين من دائرة الحكم. واستمر تفاؤل هذه الأقلية بالتآكل وصولاً إلى الانقراض حيث ظهر ذلك جلياً في تصاعد حماسهم تجاه ثورة الياسمين واختفاء وسائل تعبيرهم أمام ثورة تقويض الاستقرار اللبناني. وقد نتجت هذه اللامبالاة عن اليأس والملل من تكرار السيناريوهات المعهودة بعد كل أزمة: فراغ حكومي فوساطات دولية وإقليمية(بالرغم من نكهة تركية مميزة هذه المرة) فاحتقان في الشارع فدماء فاغتيالات ف ف ف ..... حيث النتيجة معلقة بانتظار تطور الأحداث في الأيام المقبلة التي من الممكن أن تكون سوداء قاتمة!
وهذا السيناريو إذ يبرهن على شيء فهو على وهن مشهد يعيد نفسه منذ الاستقلال الأول ويدل على فشل النظام السياسي اللبناني في الاستمرار وعلى قدراته الانفجارية المتجددة نتيجة احتدام تناقضاته! وقد كان زلزال الحرب الأهلية الذي اخذ معه مئات الآلاف من الأجساد المحترقة بنيران القصف العشوائي، أحد انجازات هذه التناقضات. ولم تؤدي دماء هؤلاء الشهداء ودموع الأمهات ونحيب الآباء إلى الاعتذار من اللبنانيين والاعتراف بالمجازر والمحاولة لإعادة النظر ببنية صلبة للبنان بل ذهبت الآلام هدراً واستمرينا في إنتاج الأزمات!
لقد أعاد مشهد جسد محمد بو العزيزي المحترق إليَ مشاهد الجثث المحترقة في الحرب الأهلية والتي ذهبت تضحيات أصحابها هباءً (المقارنة قائمة حول مشهد النار فقط) ولكن لم يعيد الشعب التونسي الموحد والمنتفض على الديكتاتورية إلا انبعاث أحاسيس بالانكسار وبذل الحصار. ولكنها في الوقت عينه، وأمام عجزي عن مواجهة الطرق المسدودة في لبنان وبالرغم من إدراكي لاثمان معرفة الحقيقة الباهظة، فهي جعلتني انتفض على حصاري وعلى انكساري وعلى نفسي وعلى كل اللبنانيين المتموضعين في الخنادق الطائفية والمذهبية والخارجية والداخلية لأواجه الظلم اللاحق بالشعب اللبناني ولأقول لنفسي:
ليس في لبنان ديكتاتور كبن علي ومعظم زملائه العرب (الذين لم يسقطوا بعد) ولكنه في لبنان ديكتاتوريات قادرة أن تضع الشعب اللبناني في خندق واحد في مواجهة: الفوضى والفقر والبطالة والارتهان للخارج، وفي إسقاط ديكتاتور الطوائف الأكبر الذي يتسلط على رقاب المواطنين!
فأليست هذه الأسباب بالوافية والكفيلة لتوحد اللبنانيين في ثورتهم جميعاُ؟