Sunday, December 28, 2008

الوحدة الفلسطينية.. ولننسَ العرب قليلاً

وائل عبد الرحيم
في ذلك اليوم الكئيب من حزيران / يونيو 1982 لم تكن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة لتشن حربها على لبنان وعلى منظمة التحرير الفلسطينية زاجّة بأقصى طاقة آلتها الحربية في معركة حُظيت بتغطية عربية ضمنية، وهدفت إلى القضاء نهائيا على المنظمة التي باتت تشكل خطراً حقيقياً على الدولة العبرية، ليس بحجم ترسانتها العسكرية المتواضعة والخاضعة لتقنين السلاح الممارس في مرفأ طرطوس، وإنما لكونها استطاعت أن تشكل كياناً سياسياً معترفاً به في العالم، وأن تطرح القضية الفلسطينية كقضية عدالة إنسانية بالدرجة الأولى.
كذلك، في حرب 82، لم يكن العرب بأفضل حال عما هم عليه اليوم، فغطوّا الحرب الإسرائيلية وضغطوا في جميع الاتجاهات لتذعن قيادة المنظمة إلى حلّ ما يقصيها عن دورها السياسي المؤثر في الصراع العربي الإسرائيلي ويريح الأنظمة التي بدأت تستشعر خطر الثورة الممتدة.. ولم تكن صدفة أن تشنّ هذه الحرب بعد أشهر فقط من مقررات قمة فاس التي تبنت مبادرة ولي العهد السعودي آنذاك فهد بن عبدالعزيز لتسوية سلمية في المنطقة، ولا بعد أشهر قليلة أيضاً من انسحاب إسرائيل من معظم سيناء.
ولم تنفع المزايدات العربية في كلا الاتجاهين، الضاغط نحو قبول القيادة بحلّ ينهي وجودها في لبنان، والمزايد من وراء البحار لكي تتمسك بخيار انتحار دموي ينهيها عسكريا وسياسيا في بيروت، في حمل القيادة الفلسطينية على الإلغاء الكامل لقرارها المستقل.
في تلك الأيام كان القرار يؤخذ في الفاكهاني وليس في أي مكان آخر، لا في دمشق القريبة البعيدة، ولا في القاهرة او بغداد او الرياض، وحتماً ليس في طرابلس الغرب.
واستطاعت القيادة رغم كل ما تتحمله من خطايا الفساد والانفلاش والانفراد، أن تحوّل خروجها من بيروت إلى انتصار سياسي تحتفظ فيه بقرارها المستقل مبتعدة إلى تونس هذه المرّة بعدما عجز حافظ الأسد عن كسر رأس ياسر عرفات في دمشق وفي البقاع اللبناني وفي طرابلس التي عاد إليها الختيار في عراضة تحدّ صارخة عنوانها الأوّل "الأمر لي"، لتتفجّر بعد ذلك بسنوات قليلة انتفاضة الحجارة في الضفة الغربية وغزة ملهبة مشاعر العالم ومعيدة إحياء جذوة الصراع الحقيقي بين الجلاد المجرم كاسر عظام الفتيان وبين إرادة النضال والكفاح لدى الشعب الفلسطيني.
قد تبدو استعادة مثل هذه الأحداث التاريخية أمراً مثيراً للغرابة فيما دماء الشهداء لم تجفّ بعد على ارض غزة المقهورة.
لكن الحقيقة ان كل ما أصاب القضية الفلسطينية من ضرر ويصيبها اليوم ليس إلا نتاجاً للمعادلة الشريرة التي نجح الجميع، أنظمة عربية وإسرائيل واميركا، في فرضها، وهي محاصرة القرار الفلسطيني وتقسيمه وتشتيته واجتثاث شرعيته واتباعه بمحور من المحاور في المنطقة الذي يتخطى حسابات القضية الفلسطينية بوصفها قضية حق شعب في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة وعودة أبنائه المقتلعين، ليرسم ملامح صراعات معقدة تدور حول ادوار دول وضمانات استمرار أنظمة. وفي هذا الصراع يتضح حجم التواطؤ الإسرائيلي مع الأنظمة وليس في غيره.
هذا التواطؤ يظهر في اصرار الطرفين الإسرائيلي والعربي على إلغاء العامل الفلسطيني من الخارطة او على الأقل إضعافه وتهميشه وجعله تابعاً للأجندات الأخرى. وإن كان السعي العربي في هذا الاتجاه بالتحديد، فالإسرائيليون متفقون على ضرورة طيّ صفحة خطيئة الاعتراف بالشخصية الوطنية الفلسطينية التي فُرضت عليهم فرضاً بعد الانتفاضة الأولى وحرب الخليج، والذهاب إلى اعتبار الصراع في فلسطين جزءاً من الحرب العالمية على الإرهاب، مع فارق بسيط لا يأنف الإسرائيليون من ادّعائه وهو أنهم يواجهون شعباً إرهابياً بأكمله لا فرق فيه بين مفجّر انتحاري في تل أبيب وبين عامل في غزة.
ولأن المذبحة اليوم ليست جديدة ولا فريدة، بل هي فعل اعتيادي من دولة قامت اساساً على المذابح المنهجية بحق الفلسطينيين والعرب ساكني هذه الأرض، فليس المطلوب أيضاً لمواجهة المذبحة المستمرة تكرار الدعوات الرتيبة الى انتفاضة عربية ضد الأنظمة لن تحصل، وإلى فتح حدود امام جيوش جرّارة انشأت أصلاً لقمع الشعوب وليس لتحريرها.. الدعوة يجب ان تكون إلى أصحاب القضية انفسهم، لأنّ دماءهم هم التي تسيل ولأن أحلامهم هم التي تذبح ولأن وجودهم هم هو المهدّد.
هي دعوة لفصل مسارهم عن المسار العربي، وعن الصراع الإيراني الأميركي وملحقاته وبالاتجاهين، ولتحييد أنفسهم عن حسابات أنظمة تفاوض بالسرّ وتشجب بالعلن.. لا تراهنوا لا على الأنظمة العربية ولا على شعوبها ليساعدوكم في محنتكم، فهذه الشعوب لو كانت قادرة على الفعل لتحررت من الاضطهاد التي تعانيه قبل ان تدبّ فيها العصبية والحمية القومية وما إلى ذلك.
وتذكّروا دائماً أن أكبر مظاهرة عربية شهدها العالم العربي خلال أقسى غزو تعرضت له الشخصية الوطنية الفلسطينية حينما كانت بيروت تحترق في صيف 1982 لم تكن من أجل فلسطين ولا حتى من أجل الحرية نفسها بل احتفاء بفوز فريق كرة قدم.
ولا تصدقّوا ملوكا وعروشاً تتشدق بالاعتدال والحرص على الدماء، فليست إلا حريصة على دمائها واموالها وامتيازاتها.. يا لاعتدال وقح يفزع في صحافة النخاسة لجورج بوش وهو يتلقى الحذاء ثمّ يلوم "صواريخ التنك" محمّلاً إياها وحدها تبعات المذبحة في غزة.
عودوا إلى أنفسكم، إلى وحدكم يا وحدكم!
عودوا إلى وحدتكم. يكفي هذا الانقسام المقيت الذي يرقص له أعداؤكم ويُفرح في السرّ أصدقاءكم المزعومين.
ولتعد حركة فتح إلى اتزانها الذي كانت تتميز به حينما كانت أم ّالصبي، فصارت اليوم أكثر هوساً بالصراع الداخلي عمّا كانت عليه خلال مسيرة نضالها طوال عقود، ولا يبدو أنها تدرك انه في ظل هكذا موازين قوى تهدد ليس فقط بقاء السلطة الوطنية الفلسطينية وإنما تنذر بتصفية شاملة للقضية بل ولمقومات وجود شعب فلسطيني.. لا مجال إلا للوحدة الوطنية ولو كان ثمن هذه الوحدة تنازلات مؤلمة.
ولتعد حماس إلى رشدها، ففي غمرة انتشائها بإمارتها الإسلامية المعلنة في غزة، والتي شكلت إنذاراً مبكراً لما يمكن أن يكون عليه الحال إذا وصل الإسلاميون إلى الحكم، نسيت أنها تحكم قطاعاً لا يزال في نظر القانون الدولي محتلاً تخضع معابره لحصار ورقابة الاحتلال. ولتوقف حماس ممارساتها التي كشفت عن قباحة غير معهودة وغير مسبوقة صبّت كلّ حقدها على مكونات التراث الوطني الفلسطيني ورموزه، وهي مغالاة من قبل الحركة الإسلامية ما كان قائدها الراحل الشيخ احمد ياسين ليفكّر أصلاً بالوصول إليها.
هذا الصراع الفاسد بين فتح وحماس، الذي تؤججه أبواق الشرّ والمزايدة في العالم العربي سواء المتسترة تحت راية معسكر الاعتدال والشرعية الدولية، أو المنضوية في وهم معسكر الممانعة، سيؤدي إلى كارثة وطنية أكثر فداحة من نكبة فلسطين نفسها.
اما الحلّ لكل هذه الفوضى المبكية فليس إلا الوحدة طبعاً، هذه الوحدة التي ليست شعاراً فحسب بل هي خطة موجودة ويمكن البناء عليها انطلاقاًُ من وثيقة الأسرى التي التزمت بها القوى الفلسطينية المختلفة في أيار / مايو 2006 والمستندة إلى اتفاق القاهرة في آذار / مارس 2005 واساس ذلك تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وتطويرها على أسس ديمقراطية وبوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
الوحدة الفلسطينية هي المدخل الصحيح لمواجهة حرب التصفية الإسرائيلية الشاملة، التي لا تُختصر بإرهابها في غزة، بل برفضها العملي قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي التي احتلتها عام 1967.
فجلّ ما يقدمّه الإسرائيليون هو شبه دولة، او دولة مقطعة الأوصال، دولة وصفها إرييل شارون بأنها ستكون منزوعة السلاح تسيطر إسرائيل على حدودها الخارجية وعلى أجوائها، ودولة يعمل الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية بالتعاون مع المستوطنين لأن تكون خياراً مستحيلاً.
الوحدة من اجل رص الصفوف ومواجهة العدوان الإسرائيلي الشامل، ومن اجل إعادة بناء المقاومة على مختلف مستوياتها.. الوحدة لأنها الخيار الوحيد ولا خيار آخر.
الوحدة للتحرّر من حسابات الآخرين.. هذه معركة طويلة وليست نقطة تسجّل في حسابات النصر الالهي لفلان أو علتان.. هذه معركة الأساس فيها الحفاظ على وجود هذا الشعب وليس التضحية به.
الوحدة لأنه من خلال الوحدة يعود قرار فلسطين إلى أصحابه الحقيقيين.
الوحدة لأن هذه المعركة هي معركة فلسطين، ليست معركة دول الاعتدال، وليست معركة الجماعة الإسلامية في باكستان، وليست حتماً معركة الدفاع عن بوشهر.