Friday, September 26, 2008

شيعة ضد حزب الله.. لبنان ساحة اختبارات

وائل عبد الرحيم


خلال ثلاثة أعوام واكثر استطاع "الاعتراض الشيعي" على حزب الله أن ينتج رموزاً يمثلون – على قلّتهم – علامات فارقة في الخارطة السياسية والثقافية في لبنان، وجذبت هذه الحالة دعماً إعلامياً غربياً وتمويلاً أميركياً بخلفيات اجتماعية لا تُخفي ضرورة العمل على "اختراق" الساحة الشيعية في هذا البلد.

30.9% نسبة التمويل الرسمي الأميركي التي قدمتها المؤسسة الوطنية من اجل الديمقراطية The National Endowment for Democracy (NED) للجمعيات اللبنانية ذات الطابع الشيعي من عام 2002 حتى عام 2005 (751 ألف دولار من أصل 2425049 دولار قُدّمت مباشرة للجمعيات اللبنانية).
ودلالات هذه الأرقام تصبح معبّرة إذا رُبطت بالأهداف المعلنة التي حدّدتها المؤسسة التابعة لوزارة الخارجية الأميركية والتي تتمحور كلّها حول ضرورة دعم الآراء المختلفة والتوعية على الديمقراطية في مناطق الجنوب اللبناني او في اوساط الجمهور الشيعي في لبنان.
لا تشكّل هذه الأرقام وحدها دليلاً على توجّه اميركي وغربي مضطرد نحو تقديم الدعم المالي والإعلامي والسياسي لمجموعات شيعية لبنانية تناصب حزب الله وحلفائه العداء. لكن آراء لمحللين وسياسيين اميركيين أعلنت صراحة وجود حاجة إلى تنمية أصوات الاعتراض الشيعي اللبناني. الاعتراض الشيعي تعبير يُراد به الحديث عن خصوم حزب الله في الوسط الشيعي منذ بداية الأزمة اللبنانية الأخيرة.. وهو طبعا لا يشمل الحديث عن الاعتراض الديمقراطي على الاستئثار الحزبي والحركي بين شيعة لبنان خلال العقود الأخيرة. وهو، على ما يبدو، نموذج صغير للاختبارات التي تجريها الإدارة الأميركية على المجموعات الطائفية والعرقية في الشرق الأوسط.

حالة فرضتها ظروف "ثورة الأرز"
منذ 14 شباط 2005 حينما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وانقسم لبنان إلى معسكري آذار، باتت الحاجة إلى "الاعتراض الشيعي" أكثر إلحاحاً. وإذا كان الاعتراض الشيعي معقله في الجنوب اللبناني بشكل خاص (يوم كان اليسار الجنوبي أكثر توحّداً)، فإن الأوضاع الناشئة عن اغتيال الحريري تطلبت تغييراً في المهام والأدوار.. في الواقع كانت الحاجة إلى اختراع اجتماعي – سياسي لمعترضين شيعة من نوع آخر أكثر ضجيجاً وأقلّ تمثيلاً – (بانتظار الصحوة المنتظرة من أحد ركني الثنائية الشيعية نبيه برّي).
فاليسار الجنوبي الذي يضمّ أحزاباً وشخصيات ديمقراطية ووطنية، بات متهماً من فريق 14 آذار بالخضوع لأجندة سورية - إيرانية ربطاً بمواقفه التي تتمسك بدعم المقاومة في مواجهة إسرائيل وبرفض أي نظام وصاية غربي ولا سيما الأميركي – الفرنسي، ودون اعتبار لواقع ان اليسار اللبناني كان احد الخاسرين الأساسيين من النظام الذي ساد لبنان بين عامي 1990 و2005 وحكمته الوصاية السورية المشار إليها من تحالف 14 آذار / مارس.
لكن الاعتراض الشيعي الذي تلا اغتيال الحريري لم يشمل اليسار.. فليس المطلوب حركة اعتراض وطنية ديمقراطية متمايزة أو مستقلة في مواقفها عن التيارات التي تعصف بالمنطقة.
خرج اليسار من المعادلة السياسية.. أفسح المكان للسياديين لطرح البدائل.. ثم ذاب هذا اليسار بفصيله الأبرز (الحزب الشيوعي) في قوى 8 آذار اصطفافاً لم تنجح في إخفائه "المواقف النقدية" المنطلفة من قاعدة التحالف اللينينية الشهيرة (نقد الحليف!) وهي القاعدة التي اعتمدها أساسا خلال تحالفه "الالتحامي" مع الحزب التقدمي الاشتراكي خلال الحرب الأهلية.
وتتالت محاولات تظهير حالة شيعية متميزة عن فريق 8 آذار بدأت باجتهادات أفراد انضووا صراحة ضمن لجان تنسيق "ثورة الأرز"، ثم بالتجمع الشيعي اللبناني المتعثّر، ووصولاً إلى مواقف بعض رجال الدين والأكاديميين والمثقفين والناشطين خلال حرب تموز / يوليو الأخيرة، واخيراً ظهر تجمع يطلق على نفسه "التيار الشيعي الحرّ"، وصولاً إلى توزير ابراهيم شمس الدين في حكومة السنيورة العتيدة.
ومن كان يطرح نفسه ديمقراطياً في السابق، ألحق بصفة الديمقراطية وصف "شيعي حرّ".. بهذه الطريقة يرشّح كل طامح نفسه للأدوار التي يمكن ان تستجدّ في حال وصلت الأمور بالبلاد إلى حدّ الطلاق النهائي بين "أكثرية" 14 آذار والفريق الآخر الذي تتزعمه ثنائية حزب الله – امل.

الاستقلالية الشيعية خياراً؟
يدرك 14 آذار الذي كان ممسكاً بالسلطة في لبنان أنه من الصعب عليه تقبل اندماج أجسام ضئيلة في نسيجه وإن يكن تحت عنوان الاعتراض الشيعي.. فتركيبة القوى التي تشكل هذا التحالف لا تسمح له باستيعاب مغامرة كهذه لا سيما أن الاعتراض المشار إليه هنا لا يتمتع بالتمثيل الشعبي الحقيقي. لكن هذا لا يمنع التحالف الطائفي من استخدام "الاعتراض الشيعي" على اوجه مختلفة. يمكن الاستخدام من باب الضجيج – وهو استخدام مشروع بالمعايير السياسية - . فتدور الآلة الإعلامية لتحالف 14 آذار على وقع الاعتراض الشيعي وبأدوات "الاعتراض الشيعي" ودون مشاركة طبعاً للاعتراض الشيعي في أي قرار مصيري.
لكن الاخطر ليس الاستخدام الإعلامي للاعتراض الشيعي من قبل 14 آذار، بل استخدامه من التحالف إياه لتشويش الحليف الدولي وتضليله.. أسلوب جرى تعلّمه من النموذج العراقي (تقارير احمد الجلبي – فؤاد عجمي للإدارة الأميركية عشية حرب العراق). في تقارير الجلبي – عجمي ولوبي المعارضة العراقية عشية الحرب توقعات وتنبؤات لم يتحقق منها شيء (ما خلا سقوط نظام لم يكن تراهن على صموده إلا قلّة معميّة). ودفع الأميركيون ثمن هذه النصائح حتى باتوا اليوم يتحدثون صراحة عن هزيمة مدويّة في العراق، ونبذوا الجلبي ومعارضته معتبرين أنهم تعرّضوا لخديعة.
جدّد الحلفاء اللبنانيون نصائحهم، مستفيدين من اعتبار الإدارة الأميركية لبنان احد النجاحات القليلة في الشرق الأوسط.
حاولوا إيهام صنّاع الرأي والأوساط القريبة من دائرة القرار في واشنطن بإمكانية قيام البديل الشيعي المعتدل المستقل عن المحور – الإيراني السوري. حاولوا استصدار قرار بمنع كلّ تسوية في لبنان، وباستمرار الاندفاعة فيه على أساس ان "ثورة الأرز" هي إنجاز إدارة بوش اليتيم.
أصبح مقال رأي او مقابلة تلفزيونية أو موقف كاتب جديراً بإعلائه إلى مصاف الفعل السياسي المؤثر.
لم يعد مستغرباً في مرحلة ما ان تقرأ في الصحف والمجلات الأميركية بعد كلّ زيارة او جهد استثنائي لرمز من رموز التحالف الآذاري في لبنان عن "الاعتراض الشيعي" كحالة أقلويّة لكن شديدة الاحترام والهيبة في لبنان.
حتى كانت احداث 7 أيار / مايو التي جرت على وقع المتغيرات في المنطقة ولا سيما المتغير في العلاقة السورية الفرنسية بسكوت ضمني من جانب الإدارة الأميركية، فاظهرت ان الاندفاعة إلى الحسم التي كان فريق 14 آذار ولا سيما وليد جنبلاط وفؤاد السنيورة ينظّران لها لا اساس لها على ارض الواقع.

حالة أقلوية تستأهل الدعم؟
"شيعة ضد حزب الله"، عنوان مقال كتبه المستشار السابق في وزارة الدفاع الأميركية David Schenker مباشرة بعد حرب تموز ونشرته The Weekly Standard الأميركية (13/11/2006) قبل احداث أيار 2008 بنحو عامين، وفيه يستعرض مواقف "الاعتراض الشيعي" ليخلص إلى ضرورة دعم هذه الأصوات الاعتراضية وتشجيعها.
تحدث Schenker عن ثلاث شخصيات شيعية تشكل جزءاً من حالة "الاعتراض" الحالي على حزب الله. المحامي محمد مطر الذي يقاضي الشيخ عفيف النابلسي بتهمة إصدار الأخير فتوى يحرّم فيها على كلّ شيعي دخول الحكومة أو القبول بمنصب وزاري بعد اعتكاف الوزراء الشيعة في كاون الأول / ديسمبر 2005، والأستاذة الجامعية منى فياض التي نشرت في 8 آب 2006 - في فترة العدوان الإسرائيلي – مقالاً في صحيفة النهار اللبنانية بعنوان "ان تكون شيعياً اليوم" وتبدي فيه اعتراضها على حزب الله وأدائه خلال الحرب، والأستاذ لقمان سليم الذي (ووفقاً لـSchenker) "يدير جمعية غير حكومية ممولة من الاتحاد الأوروبي" ويبدي بدوره انتقادات لحزب الله. والجامع بين الثلاثة تحدّثهم بصفتهم الشيعية.
ويبدو أن التعاطي الإعلامي الغربي – والأميركي بشكل خاص – ما فتأ يركّز على أربع شخصيات باررزة في الاعتراض الشيعي: مفتي جبل عامل السيد علي الأمين، والدكتورة منى فياض، والمحامي محمد مطر، والناشر لقمان سليم.
يتحدث مقال نشرته صحيفة Christian Science Monitor الأميركية (15/12/2006) عن أن بعض الجهات الشيعية اللبنانية بدأت تطرح الأسئلة علانية عن أحادية حزب الله، وتتخوف من طموحات الحزب التي قد تلتقي مع المحور السوري – الإيراني وتعرّض مصالح الشيعة في لبنان على المدى الطويل للضرر. ويسمي المقال الشخصيات الأربع المشار إليها.
وتنقل الصحيفة عن الأمين أن تصرفات الحزب لا تصب أبداً في مصلحة الشيعة ولا في مصلحة لبنان.
ومع أن الصحيفة تلاحظ ان الأصوات الشيعية التي تعارض حزب الله لا تزال قليلة، إلا أنها ترى ان هذه الأصوات باتت تجذب المزيد من الاهتمام في الوقت الذي تحول في لبنان إلى ساحة صراع بين إيران وحلفائها الإقليميين من جهة، وبين العالم العربي الذي يسيطر عليه السنّة بقيادة السعودية ومصر.
وتذكّر الصحيفة بأن المفتي الأمين بات منذ أشهر أبرز المعارضي العلنيين لحزب الله ويرفض ما يتحدث عنه حزب الله عن "النصر الالهي".
وتضيف الصحيفة أن السيد الأمين كان في السابق مقرّباً من حزب الله وأحد أساتذة الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله حينما كان الأخير يدرس العلوم الدينية في مدينة قم الإيرانية في العام 1981.
ثم تستفيض الصحيفة في الحديث عن الدكتورة منى فياض، الأستاذة في الجامعة اللبنانية ومقالها الشهير "أن تكون شيعياً الآن"، والمحامي محمد مطر المحامي الشيعي الذي تحرك ضد حزب الله.
ويقول مطر للصحيفة "في النهاية يجب الدفاع عن مبادئ الجمهورية. وإذا كان البعض يريد العيش في مجتمع يقوده رجال الدين فليذهبوا إلى إيران".
كما لا تهمل الصحيفة الإشارة إلى لقمان سليم وموقعه الالكتروني "هيا بنا" وتنقل عنه أن اسمه ورد في لائحة العار التي وزعت عبر الانترنت خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان.
ورغم أن الصحيفة تشير إلى استطلاعات للرأي بيّنت أن حزب الله يجذب تأييد 90% من شيعة لبنان، إلا انها تنقل عن معارضين شيعة للحزب أن شعبية الحزب باتت أقلّ مما تظهره الاستطلاعات.
ويعترف الشيعة المعارضون لحزب الله بصعوبة منافسة الحزب على جمهوره الشيعي. وتنقل الصحيفة عن سليم قوله "لسنا مؤهلين لمنافسة حزب الله بوصفنا شيعة جمهوريون علمانيون، فلديهم الله إلى جانبهم، ومن المستحيل منافسته".
أما صحيفة The Washington Post الأميركية (10/12/2006) فتنقل عن منى فياض في سياق وصفها الأزمة الحالية في لبنان بين المعارضة والحكومة أن المعركة بدأت، "لقد فتحوا أبواب الجحيم. هكذا شعرت خلال الأيام القليلة الماضية".
وتتحدث الصحيفة أيضاً إلى محمد مطر الذي يجزم بأن "لبنان سيزول من الوجود إذا احتكرت قوة ما كل السلطة او باتت قوية جداً".

تمويل اميركي لبعض شيعة لبنان
هذا التوجّه من ضرورة التشجيع وتقديم الدعم التي يدعو إليها Schenker، لا يجد ترجمته في السياسة فحسب.. فمنذ سنوات تقدّم الولايات المتحدة الأميركية عبر المؤسسة الوطنية من أجل الديمقراطية (NED) دعماً مستمراً وغير منقطع إلى إحدى المجلات التي تُعنى بشأن الجنوب اللبناني أهمّ مناطق شيعة لبنان سياسياً واجتماعياً: مجلة شؤون جنوبية التي يرأس تحريرها السيد علي الأمين نجل العلامة السيد محمد حسن الأمين (دفعت Ned 53 ألف دولار خلال عام 2005 لتمويل صدور 12 عدد من المجلة وذلك بهدف تشجيع النقاش العام بشان إنشاء مؤسسات ديمقراطية في لبنان ولا سيما في المناطق الجنوبية، كما دفعت 30 الف دولار خلال العام 2002، و70 ألف دولار في 2003). (نقلاً عن موقع Ned)
ويتبدى الاهتمام الأميركي الحكومي أيضاً من خلال المنح التي قدّمتها NED إلى جهات وجمعيات غير حكومية بهدف معلن يتركّز على الاهتمام بالشأن الجنوبي – الشيعي. فجمعية "جيل" التي يرأسها السيد حكمت الزين وتعنى بشكل خاص بالمناطق الجنوبية تتلقى تمويلاً ثابتاً من Ned (25 ألف دولار عام 2002، 35 ألف دولار عام 2003، 35 الف دولار عام 2004، 50 ألف دولار عام 2005). اما اهداف التمويل كما تحددها المؤسسة الحكومية الأميركية نفسها فهي "تشجيع حقوق الإنسان والديمقراطية ومشاركة الشباب في الأنشطة المدنية في جنوب لبنان".
وتَحظى الجمعية الخيرية العاملية بدعم مستمر (48 ألف دولار عام 2002، 135 ألف دولار عام 2003، 135 ألف دولار عام 2004، 135 الف دولار عام 2005). ومن اهداف التمويل لتدعيم حاجات المجموعة الشيعية في لبنان إلى حقوق الإنسان.
وتشكل نسبة التمويل الحكومي الأميركي لهذه الجهات "ذات الطابع الشيعي" الخالص 30.9% من مجموع التمويل الأميركي للجمعيات اللبنانية من عام 2002 حتى عام 2005 (751 ألف دولار من أصل 2425049 دولار).

البدائل المعتدلة
سياسة تشجيع البدائل المعتدلة مرشّحة لمزيد من الازدهار في هذه المرحلة التي تحولت فيها الإدارة الأميركية من خطاب دعم نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط إلى دعم النظم المعتدلة وما تصفه بـ"الحكم الرشيد"..
لكن خطورة هذه السياسة لا تنحصر في أنها تخلق كيانات سياسية واجتماعية وهمية معزولة عن سياق التطور الطبيعي للمجتمعات في هذه المنطقة، بل ربما تطرح علامات استفهام بشان جدية الغرب والأميركيين بصفة خاصة في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي لشعوب عانت طويلاً من اختزال إراداتها في نُظم تلقى دعم واحتضان الخارج.
في الحالة اللبنانية، ليس مأمولاً فعلاً أن تصبح "البدائل المعتدلة" – لدى الشيعة على الأقل – ذات ثقل وتأثير كافيين لتغيير الخارطة السياسية داخل الطائفة. مهما حاول الناصحون المحليون – وعبر بعض وسائل الإعلام والأبواق التي تروّج لفكرة دعم البدائل المعتدلة – تظهير مشروع ما لاستبدال سلطة التمثيل الشيعي بأخرى واهية لا أساس لها ولا مستقبل، فإنهم سيصطدمون بواقع أن في أميركا والاتحاد الأوروبي من يحرص على عدم الانجرار في التورط اكثر وراء المزيد الخداع. فمهما بالغ الأميركيون في الإشادة بمزايا المعتدلين العرب، لن تغيب عنهم الصورة النمطية للسياسي التاجر المحلي.. إنها صورة يحتقرها الكثيرون في سرّهم.

No comments: