Thursday, September 23, 2010

رجل الأمن



خالد برّاج
في روايته بعنوان "سيرة رجل حقير" يستعرض الكاتب الفرنسي ديديه داينيكس حياة رجل أمن فرنسي عاصر مراحل و محطات أساسية من تاريخ فرنسا الحديث.

فمن زمن الإحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية مروراً بقيام الجمهورية الخامسة و ثورة الطلاب عام 1968 وصولاً إلى إنتخاب الإشتراكي فرنسوا ميتران رئيساً للجمهورية عام 1981 يظهر كلمان دوبريه (بطل الرواية) كموظّف عادي, لا تعنيه السياسة لا من قريب و لا من بعيد يضع في خدمة مرؤوسيه في مختلف الإدارات و الحقبات ذكاءه و دهاءه الخارقين للحفاظ على النظام السياسي القائم, فهو رجل بوليس في الوحدات الخاصة خلال الإحتلال النازي لفرنسا مهمِته الأساسية إلقاء القبض على اليهود و أعضاء المقاومة الفرنسية و تسليمهم إلى السلطات الألمانية و هو أيضاً المحافظ على أسس و إستمرارية الجمهورية الخامسة خلال سنوات حكم الرئيس شارل دوغول من خلال ملاحقته الشيوعيين و أعضاء جبهة التحرير الوطني خلال الثورة الجزائرية و صولاً إلى قمع ثورة الطلاب عام 1968 و التضييق على الشيوعيين و الإشتراكيين خلال السبعينات بعد توقيع إتفاقية البرنامج المشترك بين الحزبين الشيوعي و الإشتراكي عام 1972.

يستخدِم بطل الرواية (كلمان دوبريه) جميع الأساليب المعروفة (تعذيب – ترغيب – رشوة – إغتيال إلخ...) لإتمام مهامه كرجل مخابرات يحاول الدفاع عن النظام السياسي في شتّى المراحل و هو لا يشكِك بالنظام القائم لأنّ فلسفته نابعة من أنّ رجل الأمن يُنجِز مهامه بمعزل عن السياسة فالأمن في خدمة النظام السياسي القائم, فإن كان نظام الماريشال بيتان يوصي بإلقاء القبض على اليهود فيجب تنفيذ ذلك و إن كان النظام الجديد فيما بعد يضمن الحرِية الدينية للأفراد و المجموعات فيجب العمل على المحافظة على هذه الحرِية.

لكنّ كلمان دوبريه رجل مخابرات فريد من نوعه إذا ما قارنه مع رجال مخابرات آخرين لا سيّما في دول العالم الثالث و بالأخص في العالم العربي, فهو بالرغم من سطوته, إجرامه و سيطرته الأمنية لم يلجأ إلى الإنتفاع المادي من خلال وظيفته, ظلّ مردوده المادي الوحيد خلال عمله في مجال المخابرات راتبه الشهري و هو يفتخِر بأنّه خلال 40 عام من العمل البوليسي/ الإستخبراتي لم يستغِل منصبه لتحسين وضعه المادي أو الإجتماعي و هي صورة مغايرة لرجال المخابرات في عالمنا العربي إذا ما أردنا المقارنة مع بطل الرواية, فالبرغم من وجه الشبّه الخاص بأساليب المخابرات القمعية و الوحشية و التي هي مشتركة بطبيعة الحال بين بطل الرواية و معظم رجال المخابرات فإنّ الفرق الأول أنّ كلمان دوبريه " رجل الأمن" كان في خدمة النظام القائم و السياسة العامة المتبّعة بينما في معظم دول العالم الثالث و العالم العربي النظام السياسي هو في خدمة الأمن و تُبنى الأنظمة (و قد بُنِيت) بالشكل المعكوس: الأمن أولاً – الدستور ثانياً – السلطات الدستورية في خدمة الأمن ثالثاً – المجتمع المدني رابعاً ممّا يعطي مجالاً واسعاً للأمنيين (العسكر و المخابرات إلخ...) للتدخُل في الحياة السياسية و فرض رؤيتهم على المجتمع و على المُنتخبين وصولاً إلى السيطرة الكلِية على الحياة السياسية من خلال الأمن.

أمّا الفرق الثاني فهو الإنتفاع المادي من المنصب الأمني, كلمان دوبريه لم يستغِل منصبه الرفيع ليزيد من حجم مدخوله الشهري و هو لم يبتزّ أو يهدِد رجال الأعمال و التجّار و الإقتصاديين ليشارك في صفقة هنا أو هناك أو التطفُل على مشروع تجاري مُربِح, ظلّ كما هو خلال فترة عمله يحافظ على النظام القائم بإستخدام الأساليب المخابراتية القذرة و الحقيرة (و لذلك هو رجل حقير) لمنفعة إستمرارية النظّام السياسي القائم دون التفتيش عن منفعة شخصية سوى ترقيته الطبيعية في السُلَم الوظيفي خلال فترة عمله.

لا تختلف أساليب رجال الأمن (خصوصاً المولجين الحفاظ على الأمن الداخلي للبلاد و ليس الخارجي) عن بعضها البعض في مُعظم أقطار العالم و هي أساليب رخيصة و حقيرة و وحشية مُبررها الدائم الحفاظ على الأمن و إستمرارية الدولة (أو النظام؟) لكن الفرق شاسع بين رجالنا الأمنيين (أي في العالم العربي) الذين ينتفعون مادياً (صفقات بأرقام خيالية, إبتزاز لمشاركة رجال أعمال بمشاريع تجارية إلخ...) بحكم موقعهم و معظم رجال الغرب الأمنيين الذين يخدمون النظام كموظفِين حكوميين مرادهم الوحيد الحفاظ على النظام القائم و الإنتفاع بالترقية الوظيفية و تعويضات نهاية الخدمة.

No comments: