Monday, June 8, 2009

"زيْ ما هوِّي"

نصري الصايغ
منقول من صحيفة السفير اللبنانية في 08/06/2009

هذا المقال للأستاذ نصري الصايغ الذي نشرته صحيفة السفير اللبنانية اليوم يؤشر بشكل مباشر وبليغ على عمق ازمة النظام التي يعيشها لبنان والتي تمثّل الخطر الفعلي على بقائه وطناً وكياناً. أزمة النظام السياسي تهدّد بقاء الوطن.

هذه انتخابات وفق النظام الطائفي، للمرة الثالثة عشرة، وستتكرر. سيتغير الشكل وقد يتبدل النظام، لكن الطائفي في لبنان قد تحجّر. وعليه، لا بد من الوصف: الطائفي لا عقل له. عقله مستعار، أو مبثوث فيه، وفق الشرطية «البافلوفية». العقل الطائفي يصوّت ولا يختار. ينسخ ويسمع ويستجيب فوراً وينساق بسرعة. يُقاد، مع شعور بالفخر. يخشى التفرد ويشتاق دائما الى تنفيذ المهمات الطائفية، بلكنة «وطنية»، وشعارات النقاء «الايديولوجي والأخلاقي والإنساني».
الطائفيون يتراءى لهم أنهم يفكرون، فيما هم يملكون في بواطن دماغهم، آلات لتسجيل الأقوال الشرطية الآتية من فوق، من لدن الزعيم أو المرشد السياسي أو القائد «الشعبي»، أو المرشد الديني. الطائفي إنسان مروَّض جداً، ولديه حماسة شديدة للتمتع بشرطية الولاء. لذلك، هو يجمل تبعيته، بتبني «القضية» المعمول بها رواجا.
كلب «بافلوف» يتبرع بلعابه. هذا هو قانون الاقتران الشرطي. الطائفي، لا يتبرع بلعابه، بل بوجوده كاملا، فإذا لم يأته الأمر من فوق، طالب به. لأنه في وضعية المستعد للتنفيذ.
محمد عابد الجابري فسّر علاقة أخلاق الطاعة بالسلطة والناس. واعتبر ان هذه العلاقة من أشرس الموروثات الصامدة حتى الآن في البنية البطريركية، بحسب ما قدم هشام شرابي، في أطروحته النقدية لبنية المجتمع العربي. ولا بد من عودة الى هذا المقام، ذات يوم.
المشهد الانتخابي، على جمال تقليده للنظم الديموقراطية، وعلى ما يترسب منه على الإبهام من حبر خاص، غير قابل للامحاء، يقرب بين الناخبين. فإذا كان لهذا الإبهام المحبّر، صفة عدم الاستعمال مرة ثانية، إلا أن زوال الحبر، يعيد تفريق اللبنانيين الى أصولهم الطائفية الى لحظة ما قبل الانتخاب. وسيكون اللبنانيون «زي ما هم عليه»، قبل الانتخاب وبعده. سيعاد استعمالهم «زي ما هم». لن يخرج الطائفي من رحم أمه أبدا، هو بحاجة إلىه ليرضع منه وجوده ومعيشته الاقتصادية وتوازنه النفسي. طمأنينته داخل رحمه الاجتماعي ـ داخل طائفته، لأنها جغرافيته وتاريخه وبصمات روحه.
المشهد الانتخابي أمس، سيسفر عن تبعثر جديد، وتصلّب قديم. التبعثر في الشكل، والتصلب في شرايين العقل. والعقل الطائفي يفرز فرزاً عجيباً: عدوه مقيم في بلده، ويمد يده لعدو من الخارج. مرة يكون ايران ومرة أميركا، ومن قبل عبد الناصر، وبعده دمشق، وأحيانا، وبلا خجل، اسرائيل. عقل يبحث عن عدو يشاركه في استعدائه لذاته.
ستتفتق عبقرية السياسيين اللبنانيين، بعد فوز القوى الطائفية، ذات الـ14 آذار، وذات الـ8 آذار، بإيجاد صيغة يشترك فيها «الأعداء» (لا الخصوم) ضمن صيغة «عدوين: واحد قوي وآخر ضعيف، أو متساويين في القوة والضعف.
المشكلة ليست في من انتخبناهم، بل في «لماذا انتخبناهم، والكثير منا يعرفهم رذيلة رذيلة، ومعصية معصية، وانقلاباً بعد انقلاب، وشعارا ينفيه شعار. مشكلتنا، أننا نوالي ونطيع، ولا نسأل ولا ننتج». نفضل الرضاعة على الزراعة».
لا حلول، بغير السياسة، ولا سياسة بغير الثقافة. (السياسة في لبنان بلا ثقافة) وأول مبدأ ثقافي سياسي في الديموقراطية، هو اعتبار الناس مرجعية الحكام. لا مرجعية لأي قائد، مهما علا شأنه، إلا إذا كان جذره شعبه وناسه، وطبقته وثقافة بلاده. عندنا، القيادات الطائفية مرجعيتنا... جيّرنا هذه المرجعية بسبب التخلف الثقافي، إلى من هم فوق، عائليا وراثيا، ماليا، طائفيا، مذهبيا ومافيوزيا. جيّرنا مالنا لهم، وبتنا عراة، لا نملك من ذاتنا، سوى آذان، تنتظر الأمر لتطيعه، وتنفذه، بتفان وصدق...
الاحتشاد أمام صناديق الاقتراع، لو أنه بني على الاختيار الحر، في سباق نظام انتخابي متحرر طائفيا، (كما نص اتفاق الطائف) لكان لبنان سيتغير حتما ولكانت سلطته قادرة على أن تحكم فيها أكثرية وتعارضها أقلية، وكلاهما لا ينتسب إلى طوائف بل إلى مواطن بصيغة الجمع، أما وقد بلغ الاحتشاد الطائفي مداه... وظهرت النتائج على ما هي عليه، فليس لنا أن نتنبأ بلبنان جديد، لأنه، سيكون «زي ما هوِّي».

No comments: