Wednesday, March 4, 2009

مهاجرون في فضاءات رماديّة... في سيرة مدينة لم تلدني

وائل عبد الرحيم


قالت لي العصفورة في يوم غائم ممطر إن البعض أقنعها قبل أن يرحل إن الواحد منا يختار أوان الرحيل بملء إرادته..
إنني قد أخالفها الرأي، فالرحيلُ ليس خياراً واعياً، إنه صُدفة.
كذلك هي الصُّدفة التي قادتني إلى هذه المدينة.
مدينة ما كنت أخال أنني سأحبها يوماً بهذا القدر.
كانت في المخيّلة كتلة اسمنت وحديد، وسقفاً من غيم رمادي.
لعلها هي كذلك، لكنّ أمرها عجيب حقاً.. فتحت الرمادي حياة أخرى.. وألوان للناس والقطارات ونوافذ المنازل.. ومذاقات النبيذ المحلي والمستورد...
ليست لندن مدينة شاعرية، ولا غرابة في ذلك.. بل لا اعتراض..
هي مدينة صعبة، لكنها لصعوبتها طيّعة إذا امتدت إليها يد واثقة.. وقد تكون مدينة مضاءة إذا قرّرت السماء أن تمنحها بعضاً من الشمس.. وربما تصبح مدينة مغضمة العيون إذا داعبتها يد متهوّرة تبحث عن زاوية في حدائقها.
كلا ليست لندن مدينة تمنحها حبُّك بسهولة.. ولكنك إذا أحببتها فسينعصر قلبك إلى حدّ الانسحاب.
سألتُ الصغيرة في باريس، وهي مثلي مهاجرة إلى مدينة ليست المدينة التي ولدتها، ولكنها على الأقلّ أوروبية.. هل يمكن لنا أن نشتاق إلى مدينة لم نغادرها بعد؟ فقالت: "نعم. لا يمكنك أن تتخيّل معاناتي، فأنا أيضاً أخاف أن أغادر باريس".
فقلت: حقاً؟؟ حتى لو انني قررت الرحيل الآن، لكنني لا أعرف إلى أين. فالمدينة التي ولدتُ فيها أصبحت غريبة بعض الشيء عني.. ربما أذهب إلى إفريقيا إذا وجدت عملاً هناك.
فقالت الصغيرة "عليك أن تتصالح مع مدينتك".
لكن قولي لي هل يعني هذا أننا إذا كنا قد غادرنا المدينة التي ولدنا فيها منذ سنوات وأحببنا مدناً أخرى، أو كرهناها، هل يعني هذا أننا لم نعد نحب المدينة الأولى؟
فقالت "أبداً. إنه الغياب المزدوج لشروط المهاجر". ولم أفهم شيئاً لكنني لم أطلب شروحات إضافية، فكنت قد رجوتها الإيجاز.
لكن ألا يعني ذلك أننا فقدنا معنى الشعور؟
"قطعاً لا. إنه تشتت الأحاسيس!".
غريب امر المدن، وغريب أمر بعض الناس الذين من كثرة الترحال امتهنوا الرحيل. إنني أفهم الغجر.. ألا يرتحل الغجر في اوروبا؟
ولندن أيضاً مدينة للموسيقى، فهي المساحة التي يصبح فيها التعبير عن المكنونات متاحاً بحيث لا يمسّ خصوصيات الآخرين.. يمكنك أن تكون عنصرياً في بلد تعاقب قوانينه هذا السلوك، وبنوع من الموسيقى تتجنب العقاب.. ويمكنك أن تسمح لنفسك بقليل من العدوانية تنساب عبر الموسيقى.. ويمكنك ان تكون أحمراً بالموسيقى.. وأن تحبّ إذا شاءت السماء، بالموسيقى أيضاً لمن لا يعرف كيف يحبّ دون ألحان ونبيذ وبعض من الأرض.
هل يمكن لنا أن نحبّ مدينة بشعة مثل لندن؟
"نعم" قالت الصغيرة.
وهل إذا أحببنها تبطل ان تكون بشعة؟
"بل بشعة، ولكن عميقة".
مثل البحر؟
"تشبيه جيّد".
مع خطر الغرق؟
"نعم" قالت.
ولكننا هنا لا نعني الموت.. لا؟
"بل يمكن أن نموت إذا لم نستطع ان نتحكم بتنفسنا".

No comments: