Tuesday, January 13, 2009

مقتطفات من رحلة امرأة اوروبية الى فلسطين

إيناش اشبيريتو سانتو

Photo by: Ines E.S

ابناش امرأة برتغالية في العشرينيات من عمرها، جامعية وناشطة سياسية، تسنّى لها أن تزور فلسطين التاريخية في الصبف الماضي، فتنقلت بين الضفة الغربية والمناطق المحتلّة عام 48، وعادت بانطباعات تقول إنها جدّ شخصية، وربما تكون قاسية بعض الشيء، لكنها في الوقت نفسه تضيء على جوانب مهمّة من مسار يوميّ لحياة شعب شتّته الإسرائيلي في جغرافيا تضيق أو تتّسع على خارطة وطن لا يزال يحلم أبناؤه بأن يستعيدوه.. وإلاّ أن يستعيدهم إليه.

click here for the French Version

لم يسبق لي أن واجهت في حياتي مثل هذه التجربة التي يبدو من الصعب جداً الكتابة عنها.
فمع كل هذا المسار السياسي والاجتماعي للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ثمّة تاريخاً كاملاً من المعاناة في المنطقة المستمرة منذ أكثر من 60 عاماً ولا تلوح في الأفق نهاية قريبة لها.
ذهبت لقضاء ثلاثة أسابيع في فلسطين، حيث تسنّى لي أن أتعرفَّ على مُجمل هذه المنطقة تقريباً (ما عدا غزّة)، وساعدتني في ذلك معارف قريبة بشكل أو بآخر على جانبي "الجدار". ورغم أنّ الجدار يفصل بين هؤلاء، إلا أنهن يناضلن ويتشاركن التطلعات نفسها تجاه أرضهن الأمّ: دولة واحدة يسود فيها القانون والمساواة بين المواطنين. وأنا أتّفق مع هذه الرؤية، في الوقت الذي أصرّ فيه وأعتقد بشدّة أنه يوجد كيانان واحد يمارس القمع وأخر مقموع..

الحدود الأردنية
مع وصولي إلى الضفة الغربية عبر الحدود الأردنية، كانت تنتظرني عند النقطة الإسرائيلية ثماني ساعات من التدقيق حيث سيل من الأسئلة والضغوط. ولم تساعدني التأشيرة السورية ولا اللبنانية خاصّة الموسومتان على جواز سفري بالتعجيل في هذه الإجراءات، لكن الرسالة كانت واضحة: أهلا وسهلاً بك في جحيم الأرض المقدسة.
وجهتي الأولى كانت نابلس. وخلال عبوري إلى الضّفة الغربية لم أواجه نقطة تفتيش واحدة بل ثلاث، وقد كنت سمعت عن هذه النقاط من قبل لكنني لم أجرؤ أن اكوّن صورة تقريبية لما هو عليه الحال حتى شاهدته بأمّ عينيّ. وعلى الفور، بدأت أسئلة عدة تراودني حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الأجنبي في هذه المنطقة (بمعزل عن الجماعات البرلمانية والمنظمات غير الحكومية).. هذه الأسئلة رافقتني خلال مجمل إقامتي في تلك البلاد. وسرعان ما أدركت بعد ذلك أن القيود المحكمة للاحتلال الإسرائيلي تطبع هذا المكان بما لا يسمح لنا إلا أن نكون شهوداً فحسب.

نابلس المدينة القديمة
المدينة القديمة في نابلس، وجمالها العمراني، وسوقها، والمناظر الطبيعية التي تحيط بها، كل ذلك يجعلنا نتكهّن أن ماضياً مزدهراً كان يسود. النظرة عن كثب، والحديث إلى الناس، واختبار الحياة اليومية، تدفعنا إلى التأمّل في حقيقة الأمور. بين حواجز التفتيش الإسرائيلية على مداخلها، والمستوطنات المحيطة بها، والقواعد العسكرية التي تراقبها، تبدو نابلس مدينة تحتلّ مكانها في درب الآلام الأعظم.
تبدأ المعاناة في المساء، حيث يُجبر الناس على العودة إلى منازلهم قبل الحادية عشرة لكي لا يصادفوا الجيش الإسرائيلي الذي اعتاد التوغّل في المدينة بانتظام منذ نيسان / أبريل من العام 2002. وتشهد المدينة في مثل هذا الوقت حظر تجوّل غير معلن، فتخلو الشوارع من الناس. نستيقظ في الصباح، فنحاول أن نسخّن الحليب في "المايكروويف"، لكن الكتابة العبرية على هذه الآلة تؤدّي بنا إلى الضغط على الزرّ الخطأ. الاحتلال أمر محسوس حتى داخل المنازل، وهو أمر جدير بالملاحظة. إنه الاعتماد الكلّي حتى على السوق الإسرائيلية.
في النهار يمكن لنا مشاهدة الشوارع التي وسعّتها الجرافات، ولكن أيضاً اليافطات التي تمجّد الشهداء أو تلك التي تبكي عائلات قضت تحت أنقاض القصف.


"عا رام الله"
نتحضّر للذهاب إلى رام الله، المدينة التي أراد الإسرائيليون من الفلسطينيين أن يعلنوها عاصمة الضفة الغربية بعد غزوهم للقدس الشرقية.
تقلّنا سيارة أجرة حتى الحاجز الإسرائيلي فقط، فنادراً ما يعطي الإسرائيليّون تراخيص مرور للسيارات حتى تجتاز الحاجز. ونمشي مزهوّين حتى نصل إلى طابور الانتظار. ومن ثم، يخضع زهوّنا هذا للامتحان أمام الجنود الإسرائيليين حينما يتولى أحدهم مهمة التدقيق بأوراقنا، ويفتش كلّ شيء، في الوقت الذي يوجّه زميله بندقية الـ ام 16 نحونا، أو نحو الحشد.
هذا المسار بالنسبة للفلسطينيين، وبالأخص أؤلئك الذكور بين أعمار الـ15 والـ40، يجسّد جحيم الانتظار والإذلال وتقييد حرية التنقل بين مدن الضفة الغربية. بل كأنه قاعة مغادرة في مطار على ما يقوله أحد الجنود "كأننا في مطار، لا؟".. وأنا أشاهد هؤلاء الجنود تذكّرتُ أغنية جيرالدو فاندريه عن الديكتاتورية العسكرية في البرازيل.. تقول الأغنية "في الثكنات هناك جنود علموهم درساً قديماً: أن يموتوا من أجل الوطن وأن يعيشوا دون منطق!".
بعد فترة من التوتّر، نعود إلى الاسترخاء، حيث نستقل تاكسي "ميني باص" مباشرة إلى رام الله. وفي السيارة تدور أحاديث ودّية تعكس استرخاءنا، لكن لا يطول الأمر، فسرعان ما يعلو صوت السائق يدعونا إلى ربط الأحزمة، مما يعني أننا نقترب من نقطة تفتيش جديدة. وفوراً تنحبس الأنفاس كما لو أن الأحزمة تشدّ علينا بقوة. كل شيء متروك للصدفة في نقاط التفتيش هذه، فإما أن "يمشي الحال" وإما أن تتعثر الأمور. وفقاً للتقارير الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة إن العوائق التي تحدّ من حرية تنقل الفلسطينيين داخل الضفة الغربية ارتفعت في نيسان / أبريل 2008 إلى 607 حواجز إسرائيلية.

بيت لحم ومخيّم عايدة
في يوم آخر، أتوجّه إلى بيت لحم. وفي المدينة التي ولد فيها المسيح توجد مخيمات للاجئين أحدها مخيمٌ يدعى "عايدة"، حيث يعيش 4500 فلسطيني منذ ثلاثة أجيال أو أربعة.. ولكن على عكس الحجّاج المسيحيين الذين يقصدون هذه المدينة منذ قرون، فإن هؤلاء الفلسطينيين استقروا في المخيّم منذ قيام دولة إسرائيل في العام 1948. هذا التاريخ يدعى "النكبة"، وهو يجسّد نكبة أؤلئك الذين لم يُسمح لهم إلا بأخذ مفاتيح بيوتهم معهم قبل الرحيل عنها، مصطحبين أيضاً ذكرى أمواتهم. خلال 60 عاماً صدئت هذه المفاتيح لكن هذا لم ينزع من قلوب أصحابها الأمل بالعودة مع كل سنة تمر.
يدعونا أحدهم للصعود إلى سطح المبنى لتتوفر لنا رؤية أوضح. وفيما كنا نصعد الدرج دعانا أحد القاطنين لنحتسي الشاي في منزله. هنالك في قاعة الاستقبال حيث دُعينا للجلوس شاب يبلغ من العمر 19 ربيعاً، نائم. وسرعان ما يروي لنا والده قصته في محاولة على ما يبدو لتبرير نوع من "قلة التهذيب" تجاهنا افترضها أصحاب الدار لأن الفتى لم يسارع إلى النهوض والترحيب بنا. هذا الشاب اعتقله الإسرائيليون حينما كان يبلغ من العمر 16 عاماً، وتعرّض في السجن إلى التعذيب وأُجبر على الأكل في الوقت الذي كان يخوض إضراباً عن الطعام.
عاجز جسدياً، ومصاب بصدمة ستدوم كل حياته، يقضي هذا الشاب نهاراته بالنوم على الكنبة. أما سبب اعتقاله، فهو على خلفية الاشتباه بأشقائه الأكبر منه واثنان منهم معتقلان في السجن الإسرائيلي. وفي مجتمع حيث كلّ العائلات تأثرت مباشرة او بشكل غير مباشر بالاعتقالات، تعلّمتُ أنه ليس من اللائق أن أسأل لماذا اعتقل هذا او ذاك، وإنما ماذا قال الإسرائيليون.
أخيراً، نصل إلى السطح. وهنا، أتيح لنا أن نشاهد بأم العين المنظر الكارثي للجدار الذي يرتفع ثمانية أمتار والذي أشيد على بعد خمسة أمتار فقط من منازل مخيم "عايدة". لم يشكّل الجانب الجمالي لوجود مثل هذا الجدار الاسمنتي الرمادي مقابل نوافذ المنازل مثار أي جدل هنا، الأسوأ هو الواقع الموجود خلف الجدار.
في هذه النقطة الاستراتيجية استطعنا أن نرى في الجانب الآخر مستوطنة كبيرة، وأشجار زيتون معمّرة وبضعة منازل من هنا وهناك.
في أحد هذه المنازل على اليمين تقطن عائلة فلسطينية حيث كان أطفالها السبّاقين في الوصول إلى صفوفهم. كان ذلك قبل بناء الجدار في 2004 حيث أن منزلهم يبعد مئتي متر فقط عن المدرسة. اليوم، لا يزالون يقطنون على بعد مئتي متر من مدرستهم، ولكنهم يحتاجون إلى أن يسلكوا طريقاً تبعد ساعة ونصف حتى يجتازوا الجدار مارّين عبر حواجز التفتيش الاسرائيلية.
كلمات قليلة كانت كافية لنفهم مسار الجدار المتعرج الذي يشتّت الجميع، باسم أمن إسرائيل، ويفصل بين الجيران، ويحاصر المدن الفلسطينية، ويصادر الأراضي ومنابع المياه الجوفية. ويقتطع الجدار 9.8% من الضفة الغربية وفقاً للخط الأخضر الذي حدّده اتفاق الهدنة في 1949.

بعلين تقاوم الجدار
بعلين هي قرية فلسطينية، يمارس سكانها مقاومة نموذجية ضدّ الجدار الذي يصادر هكتارات عدة من أراضيها. هذه المقاومة المستمرة منذ أربع سنوات والتي تتمثل في تظاهرات سلمية كل نهار جمعة، تعوّل على الدعم الدولي وعلى الإسرائيليين المناهضين للاحتلال والاستيطان. ومع استمرار هذه الحركة تحوّل سكان بعلين إلى محط اختبار لكل أدوات القمع. وإضافة إلى الأساليب الكلاسيكية في القمع، بدأ الجيش الإسرائيلي يجرّب منذ فترة أسلوب "Karcher" وهو منظّف يعمل على الضغط العالي لمياه ذات رائحة كريهة تسمى "Skunk" وذلك بهدف تفريق المتظاهرين. لكن أحداً لا يعرف ممّا تتكوّن هذه المياه التي تصيب المتظاهرين ولا نتائجها. هذه الأساليب القاسية هي الردّ على "أسلحة الفلسطينيين"، أي العلم الفلسطيني الذي يرفعونه في "ساحة المعركة".
ها أنا الآن في مزرعة تقع على رأس تلة محاطة بمستوطنات. أصحاب المزرعة عائلة فلسطينية مسيحية مرتبطة بأرضها منذ أجيال، يواجهون كل يوم رعونة المستوطنين الذين يأتون لنشر الرعب مصطحبين أسلحتهم.
ولأن أفراد العائلة لا يملكون الوسائل اللازمة للاعتناء بأرضهم فقد أعلنوها "خيمة الشعوب"، لتصبح بذلك مزرعة مفتوحة أمام المتطوعين من مختلف أنحاء العالم بهدف "زراعة السلام". لكن السلطات الإسرائيلية ترفض لهم كل طلب ترخيص بناء. وبسبب هذا الأمر يمتلك هؤلاء نظام ريّ يعتمد على المتساقطات من الأمطار وأقناناً للدواجن وهي غير شرعية في منظور السلطات الإسرائيلية ما يجعل أصحاب المزرعة يقضون أوقاتهم في الذهاب إلى المحاكم.
وإذا كان على هذه العائلة الفلسطينية أن تقدّم إلى القضاة الإسرائيليين وثائق تثبت ملكيتها للأرض وتعود إلى أيام السلطنة العثمانية، فإنه يكفي لجيرانهم المستوطنين أن يقدموا ورقة تشير إلى ملكيتهم لهذه الأرض، باسم "الحقّ الإلهي".
فهم الفلسطينيون جيداً المخاطر المتعلقة بأرضهم، فها هو محمود درويش يقول أمام وفد البرلمان العالمي للكتّاب في رام الله عام 2002 "(...) وعندما أدركنا أنها تحمل الكثير من التاريخ والكثير من الأنبياء (...) للقبول العالمي بكلمة احتلال، مهما كان عدد عناوين الحقوق المقدسة التي تدّعيها: إن الله ليس ملكية شخصية لأحد".

إلى القدس
بما أننا قريبون من "أورشليم"، فلنقطع الحاجز الإسرائيلي الذي يشبه المسلخ ويتيح لنا اجتياز الجدار. كل شيء ممكن على هذا الحاجز مسهّلا المهمة للمحتل وللفلسطيني على حدّ سواء.
وترشدنا اللوحات الإعلانية إلى كيفية التصرف: "المرور من هنا"، "ضع الكيس هنا"، وخصوصاً "حافظوا على النظافة". وهذا يعني أن الاتصال الوحيد مع الجنود كان يتم في الوقت الذي يجب علينا تقديم أوراقنا عبر نافذة زجاجية.
ولكن إذا صدف وكانت هذه الأرواق غير مرتبة بانتظام وبحيث تناسب فتحة النافذة فإن الجنود تراهم يصيحون غاضبين عبر الميكروفون وكأنهم يخاطبون كلاباً تبول على الأرض.
ها نحن الآن في القدس الشرقية، هذه المدينة التي غزاها الإسرائيليون بعد حرب الأيام الستة في 1967، التاريخ الذي بدأت فيه فورة عمرانية هدفت إلى تأمين أغلبية يهودية في المدينة في سياق ما يسعى إليه الإسرائيليون: "القدس الكبرى".
بعض الطرقات المؤدية إلى القدس تظهر فيها أنقاض قرى فلسطينية قديمة في وسط حزام كثيف من المستوطنات غير الشرعية في الجانب الشرقي من المدينة والتي تحيّي "القدس الكبرى".
ولكن إذا كان الفلسطينيون والإسرائيليون في القدس يعيشون جنباً إلى جانب دون فاصل مادي بينهم، إلا أن حاجزاً خفياً يرتفع. نحسّ به يومياً حينما نجتاز الجانب الشرقي إلى الغربي. "الأصوات والروائح" مختلفة كما هي أنواع الاستثمار من قبل البلدية في إدارتها للمساحة العامة من جانب إلى آخر.

يافا ومخطط الترحيل المستمر
قادني برنامج رحلتي إلى يافا. المدينة التي كانت في ما مضى تُعتبر مرفأ للقدس، والتي شكلت مع حيفا بوابتين للهجرة الصهيونية الجماعية إلى إسرائيل في الأربعينيات. وبعدما أُلحقت منذ ذلك التاريخ ببلدية تل أبيب كانت يافا هدفاً لمخطط نقل واسع للسكان حوّل المدينة الى نموذج لترحيل السكان الفلسطينيين بالقوة، وهو المخطط الذي لم يكتمل تماماً بعد.
وإذا كان هدمُ المنازل الفلسطينية يتم تحت شعار الأمن العام، فإن التوجّه إلى نقل الفلسطينيين والامتناع عن منحهم رخص البناء لا يدع مجالاً للشك بشأن ماهية السياسات العامة تجاه هذه الفئة من السكان خاصّة.

حيفا ونظرة إلى بيروت
حيفا، التي كانت تُعتبر من قبل معقل الحركة النقابية في فلسطين، شهدت مواجهات عنيفة حينما دخلت الجماعات الصهيونية إليها في 1948. ويروي أحدهم أن دماء القتلى على الطرقات كانت لا تزال حارّة حينما بدأت مصادرة منازل الفلسطينيين ونهبها. إنها مدينة بذلت فيها القوى الصهيونية جهداً واضحاً من أجل طمس معالم ثقافة عربية وحياة فلسطينية سابقة على الإنشاء الهمجي لدولة إسرائيل. وهذا ما يمكن لنا ملاحظته بسهولة من خلال "صهينة" معظم أسماء الشوارع.
حيفا، المدينة الساحلية، أحد خطاياها موقعها الجغرافي الذي يسمح لها بإلقاء نظرة خجولة على بيروت إذا كانت السماء صافية. لكن الأصعب هو تجنّب التفكير بصبرا وشاتيلا وبكل أؤلئك الذين أُجبروا على هجرها نحو بلد جار.
كذلك من الصعب تناسي الظروف التي يعيش فيها اللاجئون الفسطينيون في لبنان منذ ثلاثة أجيال أو أربعة، وهي نتيجة سياسات متتابعة انتهجتها السلطات اللبنانية التي تدير أوضاعاً مأساوية لهؤلاء بحيث ربما تجعلهم لا يفقدون الأمل بالعودة يوماً إلى منازلهم في فلسطين!
ولكن أيضاً، لكي يحافظ هؤلاء الناس على هويتهم حيّة، وهم يخبئون نظرية باهرة تخشى من فقدان الهوية اللبنانية. "انت محظوظة"، قالت لي فلسطينية قبل أسبوعين في بيروت. إنه الحظّ بأن لا تكون مرتبطاً بهذه الأرض ومع ذلك تستطيع أن تدخل إليها وتتمتع فيها.

البحر الميّت.. أين الفلسطينيون؟
ولكي أتعمّق أكثر في تجربتي، أنزل إلى أكثر من 400 متر تحت سطح الأرض. الأشخاص الذين يُسمح لهم أن يذهبوا إلى البحر الميت في الضفة الغربية ليس لديهم أي فرصة للغوص فيه بسبب ارتفاع نسبة ملوحة المياه. هنالك تظهر حقيقة أخرى من الصعب إخفاؤها وهو غياب الفلسطينيين عن هذا المكان الذي كان يمكن لهم أن يبحروا في عبابه أو على الأقل أن يستجمّوا بحمّاماته الغنية بالمعادن والكبريت. وفي الطريق إلى البحر الميت نشاهد بناء المزيد من الطرقات المخصّصة حصراً لاستخدام المستوطنين، ومن المساحات الممنوعة على الفلسطينيين، مما يجعل من الضفة الغربية قطعة من الأرض حيث التمييز بين الناس في ما يشبه نظام الفصل العنصري (الابارتايد).

الخليل: "الغاز للعرب"
كل مدينة في الضفة الغربية لديها خصوصيتها. وخاصيّة الاحتلال الإسرائيلي في الخليل تأخذ أشكالاً من الصعب وصفها إلا بأنها صورة عن محاكاة هزلية لمأساة الصلب. من المستحيل نسيان صورة هذه المدينة مقطّعة الأوصال. صورة لبطّة قُطع رأسها وتدلّت أمعاؤها ولكن مع ذلك تواصل الدوران في الماء بحكم العادة.
الخليل، المدينة التوراتية التي أحسنت ضيافة آدم وحوّاء بعدما طردا من الجنة، هي اليوم موئل للحقد والعدوانية. إسرائيليون مرتبطون بشراسة بـ"إسرائيل الكبرى" وتحت حماية الجيش الإسرائيلي منذ العام 1967، بدأوا باستيطان قلب المدينة شيئاً فشيئا. المذبحة التي شهدتها المدينة في 1994 حينما فتح مستوطن النار على المصلين المسلمين في مسجد "الحرم الإبراهيمي" خلال شهر رمضان مودياً بحياة 29 شخصاً، لا تزال تُلقي بثقلها.
نسير بشكل طبيعي في جادّة تشهد حركة كثيفة، إلى أن، وفجأة، يصبح الطريق مقطوعاً. لكن جواز السفر الأوروبي يسمح لنا باجتياز الحاجز الإسرائيلي، ورغم أن الطريق هو نفسه، إلا أنه يبدو الآن خالياً من الحركة والحيوية. البوابات الخضراء للدكاكين الفلسطينية القديمة مقفلة ورُسمت عليها شعارات لنجمة داوود. وعلى نوافذ المنازل رُفعت الأعلام الإسرائيلية المنتصبة كما لو كان الأمر عبارة عن غزو ما.
نواصل التجوال في الخليل. ونُضطر كما كل الفلسطينيين إلى اجتياز مقبرة حتى نلتف على الحواجز الإسرائيلية. وعبر هذه الالتفافات نرى شعاراً آخر كُتب على باب أبيض لأحد المنازل الفلسطينية، هذا الشعار الذي سيظل راسخاً في ذاكرتنا كان يقول "الغاز للعرب" موقّعٌ من أحدهم في "رابطة الدفاع اليهودية" وريثة أحد آخر هو الحاخام مائير كاهانا دون أدنى شك.
"غاز" لا يزال يجعلنا نقشعرّ من ماضٍ غير بعيد وقاسٍ حُفر إلى الأبد في تاريخنا الأوروبي. "العرب"، لكي لا يقال الفلسطينيون.. يذكروننا بهذا المنطق المعمّم الذي يدفعنا لنبش العداء بين الغرب والشرق. ورغم هذا كنت لوددت أن أتمنى السعادة لمن كتبوا ذلك الشعار ونسوا بسرعة أن منازلهم بُنيت على مدافن العرب لأنهم استقروا في الشرق! متناسين أيضاً ما عرفه دافيد بن غوريون جيّداً وهو أنه من بين هؤلاء العرب المتبقّين يوجد المتحدرون الحقيقيون من مملكة "يهودا" التاريخية!
بعد ذلك بقليل يستوقفنا مستوطن ليسألنا "إلى أين تذهبون؟"، وهو سؤال وددت لو ان أجيب عنه بسؤال آخر "هل انت سعيد؟". لكن ربما كان من المفيد إليّ أن أكون قد عرفت انه يُسمح للمستوطنين أن يحملوا السلاح، وأنه لم يكن كافياً وجود كل أؤلئك الجنود في كل تلك الزوايا، لحمايتهم. العائلات الفلسطينية التي تقاوم وتصرّ على البقاء تعلّم أطفالها التلفت يمنة ويساراً قبل الخروج من المنزل خشية من وجود مستوطن يتنزّه في المحيط. فإذا كان الشارع خالياً أُعطي لهؤلاء الأطفال الضوء الأخصر للجري بسرعة نحو المدرسة.
ولكي أنهي جولتي كان عليّ أن أقطع سوقاً مظلماً مليئاً بالعوائق والفضلات التي يرميها المستوطنون الذين يحتلون الطوابق العليا في المنازل.

نقاشات سياسية في التاكسي
في الضفة الغربية، الأمر الوحيد الذي لا يمكن لنا تجنبه هو سيارات الأجرة. فالتنقل في هذه المنطقة يتم عبر وسائل النقل هذه التي تنتظرنا خلف كل حاجز إسرائيلي علينا اجتيازه سيراً على الأقدام. ولأن تغيير ثلاث أو أربع سيارات أجرة هو ضرورة وواجب للالتفاف حول بعض الطرقات الخاصة بالمستوطنين، فإن ذلك يجعل التنقل في الضفة الغربية رحلة "مرفهّة". وأقصد أنه في هذه "التاكسيات" بالتحديد تدور النقاشات السياسية ويتاح للمرء أن يعرف أكثر.
من خلال هذه النقاشات استطعت أن ألاحظ عاملاً أراه عائقاً جدياً أمام تطور حركة مقاومة صلبة وذات اعتبار في فلسطين. هذا العامل سأسميه التطبّع مع الاحتلال. ورغم التسهيلات الآلية التي ثبّتها الإسرائيليّون على الحواجز بحيث يقلّلون مدة انتظار العابرين، إلا أن الحياة اليومية للفلسطينيين صارت أسوأ بين ليلة وضحاها بعد الانتفاضة. هذه بالنتيجة حجّة طبيعية في وضع غير طبيعي.
ها انا أعود إلى طرح السؤال من البداية: ما هو موقعي في هذه المنطقة؟ أين هي مشروعيتي كأوروبية للقول لهؤلاء الناس بأن وجودهم القاتم ليس بسبب الانتفاضة وإنما في ظل نظام دولَتِيٍّ (عبر المعاناة) أصبح مستعمراً يتربّص بهم.
وبما أنّ جدّي الأكبر كان جمهورياً في زمن الملكية، وأنا حفيدة مناضل ضد الفاشية في زمن الفاشية، وابنة شيوعي في زمن الليبرالية، فما هي المشروعية التي أتمتع بها للقول لهؤلاء الناس الذين يعيشون تحت وطأة استعمار شرس، بأنه إذا ما جاعوا فليأكلوا لحم مغتصبهم (محمود درويش).
أخيراًُ أين هي مشروعيتي لأقول لهؤلا الناس أنهم في مواجهة الخضوع يجب أن ينهضوا؟ أين هي مشروعيتي عندما يتحوّل مجرّد الخروج من المنزل إلى نضال بالنسبة للفلسطينيين؟

تضاؤل مساحة الأمل
لقد بيّن التاريخ أن مجتمعا غارقاً في الظلامية، وأن مجتمعاً يعيش عبر الوأد المتكرر لانتفاضاته، وسلبه أكثر العوامل التي تؤهله لدور طليعي في الصراع، هو مجتمع أعزل في مواجهة التدمير الذي يتمّ أمام أعينه.
إضعاف العقلانية السياسية داخل فلسطين في تصاعد، تاركاً الساحة خالية أمام سيادة المنطق الديني أو أمام الفساد. وحتّى الذين احتفظوا بنوع من التفاؤل التاريخي فإنهم يفقدونه في غياب الوضوح تجاه ما يعنيه التحرّر الاجتماعي. فلسطين بدت لي مجتمعاً يختنق، مجتمعاً تتضاءل فيه طاقة الأمل.
بينما تستمر دينامية الاستعمار بالاشتداد في فلسطين، أرحل عن هذا البلد بنفسية محبطة لأنني، وعلى مستوى شخصي جداً، لم أنجح في تحويل هذا الإحباط إلى صرخة للانتفاض. مع ذلك، وفيما أنا موضوعة تحت المراقبة الأمنية الشديدة في مطار بن غوريون استعداداً لمغادرة الأرض المقدسة، فإن الاسرائيليين كانوا يستغربون من أنني، أنا، إيناس ذات الـ25 عاماً، البرتغالية، تحمل في جيبها شيئاً واحداً وهو علاّقة مفاتيح تجسّد خارطة "فلسطين التاريخية".


Sources bibliographiques :
Sand Shlomo (août 2008), « Comment fut inventé le peuple juif », Le Monde Diplomatique : France.
Groupe de tourisme alternatif (2007[2003]), « Palestine et Palestiniens », ATG : Ramallah, Palestine.
United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (mai 2008), OCHA Closure Update occupied Palestinian territory: Jérusalem.


No comments: